ملخص المقال
استغلت الحكومة الإسرائيلية الأوضاع المتردية فكشرت عن أنيابها وأخذت بالتوسع في اعتداءاتها على القدس ومحيطها
استغلت الحكومة الإسرائيلية -كعادتها- الأوضاع المتردية والانقسامات الفلسطينية والعربية والظروف الإقليمية والدولية أحسن استغلال، فكشرت عن أنيابها بالآونة الأخيرة وأخذت بالتوسع في اعتداءاتها على القدس ومحيطها «وغيرها من المدن الفلسطينية» بشكل مكثف، باعتبار القدس قلب وجوهر القضية وضربها في مقتل بمنزلة تصفية للقضية، مستفيدة من الفراغ السياسي الدولي، والانشغال العالمي بعدوانها على قطاع غزة وآثاره وتداعياته، وتحت ستار الانحياز الأمريكي والأوربي لها، والضعف والتنافر العربي، والانقسام والخلافات الفلسطينية، بل وغياب الدور السياسي والقانوني والإعلامي والمادي الفعال الذي يرقى إلى مكانتها وأهميتها التاريخية والدينية ويتناسب مع صمود أهلها والأخطار المحدقة بها، والذي يتجلى بوضوح في التغاضي والصمت المطبق عن ما يجري بها «وحتى عما سبق القيام به»، مما أتاح للإسرائيليين الاندفاع بقوة في إجراءات تهويدها وربط العمل العسكري بالعمل غير العسكري لاقتلاع أهلها دون وجل من أية مواجهة جديه حالية أو مستقبلية من أي طرف عربي أو إسلامي.
فلقد اتخذت خطوات التهويد الإسرائيلية في الآونة الأخيرة منعطفات ذات أبعاد خطيرة متمثلة بالتوسع المسعور بإجراءاتها التهويدية للمدينة، مستخدمة القوة والعصا لإثبات وجودها، وبأنها خرجت من عدوانها على غزة أقوى مما كانت عليه، وللمحافظة على هيبة قوة الردع الإسرائيلية والشعور العام بالانتصار. إذ إن ما يتم بالقدس هو استعراض الحكومة الإسرائيلية لعضلاتها وتأكيدها لقدرتها على التحكم بمصير القدس والتصرف بمقادير المقدسيين.
كما أن هذا التصعيد قد يكون وسيلة لإلهاء الإسرائيليين وتذمرهم مما يجري في أوضاعهم الاقتصادية السيئة، وتعدد مشاكلهم الحزبية، وعدم اقتدار قيادتهم السياسية. وعلى خلاف ما يبدو للوهلة الأولى، فإن التصعيد الجاري حاليًا بالقدس «والمستمر منذ عام 1948»، والأخطر الذي يتوقع حدوثه، ليس فقط نتيجة لما جرى ويتم في غزة، بل للسياسة الإسرائيلية المتواصلة. فالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين استنادًا لادعاءاتهم التاريخية والدينية يعتبر نفسه محررًا للأرض، وان وجوده فيها بحق الفتح لا محتلاًّ لها.
لذا فهو يتعامل معها كوحدة جغرافية واحدة لكن ضمن خطوات وإجراءات مرحلية تفضي إلى مخططاته الإستراتيجية. وما التهويد والاستيطان والتهجير إلا مراحل متدرجة مرسومة لبلوغ وتنفيذ أهدافه ومخططاته النهائية. فلا فارق كبير لديهم بين المكانين (غزة والقدس)، وذلك للصلة الوثيقة والطبيعة المشتركة فيما بينهما، فهما يخضعان للاحتلال والعدوان «وان اختلف نوعه» ويتعرضان معًا للإغلاق والحصار ومنع التواصل لتحطيم إرادتهما وكسر شوكة التحدي والصمود الفلسطيني. لذا يرى البعض أن التدمير الهائل والقتل الجماعي الذي مورس في غزة كان تهديدًا وترهيبًا مبطنًا لمواطني القدس «والضفة الغربية» ليكون درسًا وإنذارًا لما يمكن أن ينتظرهم لو حذوا حذو ما قام به فلسطينيو غزة. ولعل صورة هدم المساجد (20) وقصفها في غزة «وقبلها العشرات في فلسطين» ما هي إلا مؤشرات لما قد يحدث بالمسجد الأقصى لو رفع المقدسيون رأسهم.
لكل تلك الأسباب والدوافع، أخذت الحكومة الإسرائيلية بكل أريحية في التوسع وفي مصادرة أراضي المدينة ومنازلها، والاستيلاء على عشرات المنازل، بل التهديد بهدم عدة أحياء كاملة داخل المدينة ومحيطها، وإقامة مستوطنات جديدة وتوسيع القائم منها، والقيام بمزيد من أعمال الحفر وشق الأنفاق، والاستمرار في سياسات هدم البيوت بدعوى عدم الترخيص القانوني لها «متجاهلة مخالفات الاحتلال الشرعية والقانونية لبناء المستوطنات في أرض محتلة وعنوة عن أصحابها المالكين»، واستكمال بناء الجدار» رغم قرار محكمة العدل الدولية»، وسحب الهويات من أصحابها بحجج واهية «مخالفة لاتفاقيات جنيف الدولية»، ووضع العراقيل أمام منح تراخيص بناء جديدة للعرب، والتضييق والضغط عليهم. فطال العدوان الأحياء بل والأموات في مقابرهم، وامتد من فوق الأرض إلى أسفلها، وكذلك هدم الحجر بهدف طرد البشر، وجرف الزرع والشجر، وهي سياسات ستؤدي حتمًا إلى مزيد من الكراهية والعنف والمقاومة وعدم الاستقرار على عكس ما ترغبه إسرائيل في سعيها لدفع الناس إلى الهجرة والرحيل، وهو ما سيجبر إسرائيل في النهاية «شاءت أم أبت» على التخلي عن هذه السياسات العدائية والاستراتيجية التوسعية الخاطئة.
إلا أن الخطوات التهويدية الأخيرة تؤكد أن الحكومة الإسرائيلية ماضية في تعنتها وتصميمها على استلاب وابتلاع المدينة، والاستيلاء والسيطرة عليها بالقوة، واقتلاع أهلها وطردهم وتشريدهم، وفرض وقائع جديدة تمهيدًا لفصلها وعزلها عن عمقها الجغرافي الفلسطيني الطبيعي. وما يعزز ذلك استمرارها بتصعيد إجراءات تهويدها ومحيطها حتى بعد توقف عدوانها في غزة أكثر من أي وقت مضى، مستغلة الضجيج والفوضى والانشغال السياسي بآثار العدوان الأخير على غزة، وانشغال الفلسطينيين والعرب بإجراء الحوارات العربية/ العربية وخطوات المصالحة الفلسطينية/ الفلسطينية، والمناقشات والاجتماعات المحلية والإقليمية والدولية الدائرة حول وقف العدوان والتهدئة وفتح المعابر وتقديم المساعدات وإعادة الأعمار، لصرف الانتباه عما تقوم به من بالونات اختبار وإجراءات لتهويد المدينة بانتظار ماهية ردود الفعل العربية والدولية، ومعرفة كيف ستكون المواقف الفلسطينية «الرسمية والشعبية» بالقبول والرضوخ لهذه الإجراءات أو الرفض والاحتجاج عليها. وكذلك إجراء اختبار للإدارة الأمريكية الجديدة «وحتى الاتحاد الأوربي» لمعرفة مواقفها ومقدار الرفض لتجاوزاتها بالقدس ومحيطها.
كل هذا يؤكد أن ما يجري في القدس ليس بأقل خطورة عما يجري في غزة؛ لذا فإن كان الاهتمام الفلسطيني والعربي والإسلامي في الوقت الحالي يقتضي الوقوف مع غزة وأهلها، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا أو يلهينا -ولو للحظة- عن الوقوف في وجه ما تقوم به إسرائيل وتخطط له في القدس.
إن نظرة لهذا السباق المحموم غير المطمئن، وهذه الهرولة غير المسبوقة، وهذا التركيز والمجاهرة الوقحة في إجراءات تهويد المدينة والإسراع في خطوات تزييف وتشويه وتغيير وإخفاء معالمها العربية والإسلامية وطمس سيادتها وهويتها الفلسطينية، وبالضغط والتنكيل على أهلها وتعميق الاستيطان فيها، إنما تظهر سياسة تكالب اليهود وتلهفهم للاستيلاء على المدينة والإشراف على أماكنها المقدسة، وتؤكد أن هذه الهرولة ما هي إلا جزء من كل من سياسة التطرف والمصالح الإسرائيلية المتصاعدة بشكل عام، إذ لا يمكن عزل هذا التطرف عن الرفض الإسرائيلي المستمر لكل المبادرات العربية والدولية، وعدم الإذعان لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وعن استعمال القوة المفرطة في غزة وعدم التنازل لتسهيل حياة الفلسطينيين بالضفة، وانتخاب أحزاب متطرفة لتشكيل الحكومة الجديدة، وانتخاب يميني متشدد لرئاسة بلدية القدس، وعن السياسة العامة الإسرائيلية والتي في مجملها تعني تخلي المجتمع الإسرائيلي عن خيار السلم واختيار القوة، وتنامي قوى التطرف الناشئ عن الإحساس بامتلاك القوة العسكرية وبالخوف وعدم الشعور بالاستقرار و الأمن و القلق على حد سواء نتيجة الإخفاقات الإستراتيجية «السياسية والعسكرية» التي منيت بها الحكومة الإسرائيلية في الآونة الأخيرة وتقهقر الحلم الصهيوني بشكل عام، وللاعتقاد الخاطئ السائد لديهم بأن لغة القوه وحدها هي التي ستجلب الأمن والسلام وليس العدل والمساواة وإعادة الحقوق لأصحابها.
ويبدو أن ما عجل في وتيرة ذلك التهويد ظهور بعض المؤشرات السلبية والمتغيرات النسبية في كفة موازين القوى الدولية لصالح الفلسطينيين خصوصًا بعد عدوان غزة، والانسحاب الأمريكي من العراق، والانهيار المالي والاقتصادي العالمي، وتغير بعض المواقف العربية المعتدلة، والخشية من تطبيق جانب من قرارات الشرعية نحو القدس، وتزايد الكراهية والحقد الإنساني على آثار الدمار الناتج عن آلتها العسكرية، وتنامي الإحساس العالمي بالظلم والمعاناة التي يكابدها أهالي المدينة المقدسة الذين جردوا حتى من أبسط حقوقهم الإنسانية.
ومما لا شك فيه أن هذا العمل الممنهج في تهويد القدس لا يأتي من فراغ، بل في آليات ومفاتيح أساسية تحدد أطر تنفيذ المخططات الهيكلية الإسرائيلية «عام 2020»، بعد أن تم فصلها وأحكام محاصرتها بالجدار الفاصل، وذلك بالعمل داخل المدينة القديمة وخارجها، والتي تهدف إلى تهويدها وعدم تجاوز نسبة العرب المقيمين في المدينة عن 12% من المجموع العام للسكان فيها.
وفي هذا السياق يندرج ما تسعى إليه إسرائيل في شمال المدينة بالتهديد لهدم 28 مبنًى في حي الشيخ جراح وإخلاء عائلاتها منها بحجج زائفة واهية تمهيدًا لربط الحي بالجامعة العبرية، والعمل على قدم وساق في استكمال خط القطار، وهدم 55 منزلاً بمنطقة شعفاط، وكذلك إقفال بوابة الرام بقصد حصار المدينة من الجهة الشرقية. كما أن بناء حي استيطاني جديد بالمنطقة المعروفة (مخطط E) والواقعة شرقي القدس «بين معالية أدوميم والقدس» لإقامة وحدات سكنية «3500» ومناطق صناعية وفندقية ومرافق ترفيهية، إنما يهدف إلى السيطرة على كل الطرق التي تربط شمال الضفة الغربية بجنوبها وشطر الضفة إلى نصفين، ومنع أي امتداد للقدس من جهة الشرق.
ويندرج في السياق ذاته ما تحاول القيام به في حي البستان «ببلدة سلوان» جنوب القدس وتحويله إلى حديقة عامة «دواعي توراتية» بهدم 88 منزلاً، وتشريد 1500 شخص وترحيلهم بشكل قسري من منازلهم.
يتزامن ذلك مع استمرار أعمالها بحفر الأنفاق بالجهة الغربية والجنوبية من القدس والتي امتدت لتصل أساسات إحدى المدارس التابعة لوكالة الغوث في الجهة الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى وانهيار أرضية أحد فصولها، وهي حفريات أصبحت تشكل خطرًا على مستقبل أساسات وجدران وساحات المسجد الأقصى المبارك بل وخطورة على جميع الأملاك والعقارات المحيطة به.
فهل معنى استمرار الحكومة الإسرائيلية بتصعيد إجراءات تهويد المدينة بهذا الوقت وبهذا الكم والتسارع أن هنالك صفقة يخطط لها في الخفاء لتصفية موضوع القدس إن لم نقل كل فلسطين؟ أو أن السياسة الإسرائيلية الحالية هي المطالبة بأكثر مما تريد لتحصل على ما تريد؟ إنها ترفض السلام والتعايش بأمن وأمان في القدس، وهو أمر ترفضه جميع أمم. العالم فالقدس للجميع وليست لطرف دون آخر. بل أن استمرار الحكومة الإسرائيلية بالسير بهذا النهج في هضم الحقوق الفلسطينية، والتعامي عن الوجود التاريخي والديني الإسلامي والمسيحي بالقدس، يعني تخريب وتعطيل مفاوضات السلام والإضرار بأية تسوية والقضاء على العملية السلمية برمتها. وهو ما يتطلب اتخاذ كافة المواقف السياسية لتوجيه رسائل إعلامية لأمريكا والدول الأوربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية لفضح المخططات الإسرائيلية والعمل على إيقافها، وكذلك اتخاذ مواقف شعبية فلسطينية وعربية وإسلامية لدعم صمود المقدسيين وتحديهم للاحتلال، ومساندتهم بالمسيرات والاحتجاج والوقوف الفعلي والعملي معهم. أم هل ينتظر الجميع أن يجري بالقدس ما جرى في غزة للقيام بما يلزم نحوها؟! ألم ندرك بعد أنه قد حان الوقت للتصدي والثبات حتى نحافظ وننقذ البقية الباقية من القدس، وحتى لا نقف نندب حظنا عليها كالبقية الباقية من فلسطين؟!
نبيل حمودة - صحيفة القدس العربي.
التعليقات
إرسال تعليقك